حسن الظن ( للشيخ الدكتور صادق بن محمد البيضاني).
لازالت أمة الإسلام أمة الخير والصلاح ما حسُن ظَنُّ أبناءها بإخوانهم المسلمين إذ حسن الظن طريقة الإسلام وشريعته التي دعا الخليقة للاعتصام بها والسير بسيرها .
ولا تعد المجتمعات نقيةً زكيةً خاليةً من الشوائب والمنغصات ، وسوءُ الظن مُجَمْهِرٌ في نفوس الأبناء والآباء حتى يحسن ويرتفع شؤمه ودرنه .
لأنه الداء العضال الذي عُدَّ أشدَّ الكذب وأغلظه .
كما أخبر بذلك الصادق المعصوم علية الصلاة والسلام محذراً منه بقوله : إياكم والظنَ فإن الظن أكذبُ الحديث(1) .
ويُعَلِّمُ أصحابه عليه الصلاة والسلام أن يحسنوا ظنونهم في الغير، وأن يلتمسوا الأعذار تلو الأعذار حتى لا يقعوا في أعراض غيرهم دون بينةٍ رجماً بالغيب وتعجلاً في إنزال الأحكام المختلفة التي تعم بها البلوى من غير تحرزٍ أو رويةٍ .
ومن شواهد ذلك ما جاء في الصحيحين : أن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِي اللَّه عَنْه بعثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها .
فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن بدر وأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل .
فقال رجل من أصحابه : كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء .
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
فقال : ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءَ.
قال : فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار .
فقال : يا رسول الله اتق الله .
قال : ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله .
ثمَّ ولَّى الرجل .
قال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه .
قال : لا لعله أن يكون يصلي .
فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم .
ثم نظر إليه وهو مقفٍ ، فقال : إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية(2).
مع أنه عليه الصلاة والسلام أخبر عن الرجل الذي أظهر نصحه له بقوله : يا رسول الله اتق الله أنه من الخوارج حيث قال : إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية .
ولكن مع ذلك كله أراد أن يبني جيلاً خالٍ من الظنون السيئة والأدران المختلفة فقال لخالد : إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم .
بل بيَّنَ أن سوء الظن قد يتعدى ضرره بالآخرين لدوافع شيطانية غير متوقعة .
ففي الصحيحين عن عَلِيّ بن الحسين رضي الله عنهما : أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان .
فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً .
وهنا مسائل خطيرة تجاوزها البعض بسبب سوء الظن والأفهام الرديئة وظن بعضهم أنه على الجادة والمنهج السوي وليس الأمر كذلك ومن أهمها :
1- ظن بعضهم أن كبار العلماء لا يفقهون الواقع ، ولا يدركون ما يدور حولهم وهذه تهمة الضعفاء ممن غابت بصيرتهم وتاهت سريرتهم حتى اتهموا علماءهم أُولي المناقب المأثورة والفضائل المذكورة بتهمٍ سبقهم إليها الأعاجم أبناء فارس والروم في أحبارهم ورُهبانهم حتى أهملوا شأنهم وقدرهم ومن ثم لم يعبئوا بتدينهم وما هم عليه فطعنوا في الشهود ليتوصلوا به إلى الطعن في الدين فإنها بذرة متهورٍ ليوقع الأمة في التيه والإنحراف .
وهؤلاء أصناف منهم المتعمد الجاهل ومنهم صاحب النية الحسنة ممن خانته بصيرته ومنهم المغفل ومنهم غير ذلك طرائق قدداً .
إلا أن هذا النوع وإن تعددت أصنافه واقع في الجهالة لا محالة وأفعالهم مذمومة لا تبلغ بهم شرفاً ولا تأويهم منزلاً فكم دولٍ اندثرت ومعالم انطمست .
قام أصحابها على فُحْشٍ من القول وسوء من الظن وما هي إلا أيام حتى تبددت تلك الغشاوة والسراب .
وهكذا سينتهي غبار المتهورين ولن يبقى إلا نور المتنورين أعلام الهدى ومصابيح الدجى ومن سار سيرهم وحذا حذوهم .
الناسُ شَتَّى إذا ما أنتَ ذقتهمُلا لا يَستوونَ كما لا يستوي الشَّجرُ
هذا له ثمرٌ حلوٌ مذاقتـــهُ وذاكَ ليسَ لهُ طعمٌ ولا ثمـــرُ
2- ظن بعضهم أن نصرة الإسلام قد تتم بإنشاء المؤسسات الخيرية التي يُعقد لها الولاء والبراء الصِّرْف معتقدين أن من حذَّر منها كونها سبيلاً للتحزب جريمة غير مستساغة شرعاً.
وهذا فهم خاطئ سيئ إذ لا حرمة في إنشاء المؤسسات الخيرية البتة ، إنما الحرمة في جعلها طريقةً يُعقدُ في سبيل تحقيقها الولاء لمن شاركهم والبراء ممن نصحهم أو حذَّر من أفعالهم المخالفة .
ولكن لماذا الظنون السيئة من أولئك النفر – أولئك الذين ألزموا أنفسهم ومجتمعاتهم بلوازم لا تلزم ؟!
إنه الفعل السيئ الذي بقي درنه في النفوس وشغفه في القلوب .
ولذا قال الحكماء: إذا ساء الفعل ساءت الظنون .
وأحسن المتنبي :
إذا ساءَ فِعْلُ المرءِ سَاءتْ ظُنونُـهُ وصَدَّقَ ما يعتادُهُ مِن تَوهــــمِ
وكان الأولى بأولئك النفر أن يعلموا يقيناً أنه ما من عمل خيري فلن يسود المجتمعات ويرتفع ذكره حتى يكون أساسه خالياً من الولاءات المتحجرة والبراءات المتوسعة التي ما أنزل الله بها من سلطان إلا سلطان قوله تعالى : " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون" (3).
فكل المؤسسات الخيرية التي تسعى لمساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين وتعمل في نشر العلم النافع وتدافع عن الكتاب والسنة وحملته خاليةً من المناهج المنحرفة والأفكار الدخيلة فهي مؤسسات مباركة لا ممانعة شرعاً من جوازها ومساعدتها والوقوف معها لكونها تؤدي رسالة مشروعة لتدفع بالأمة إلى ما يرفع عنها الضرر ويخفف عنها وطأة الألم.
وأما ما دونها مما هو مخالف للمنهج الصحيح - الذي قام أصحابه لنصرة الأفكار والتجارب التي أسقطتها السنون ومحتها الأحداث وغيرها مما خالف الكتاب والسنة وطريقة السلف ، فركام يتبدد وبناء يضمحل .
" فأما الزبد فيذهب جفاءً ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال "(4).
3- ظن بعض الأقوام أن المخالف له حلال العرض فوقع من لا أخلاق له في أعراض العلماء وطلبة العلم وعامة الناس دون تعقلٍ أو رويةٍ بل دون مراقبة الحي القيوم العليم بكل شيء : " الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين "(5).
والأصل في الأعراض التحريم اتفاقا ً، إلا أن ضعفاء الإيمان ممن لم يدركوا حقوق الأخوة الإيمانية وقعوا فيما ما هو محرم شرعاً ظناً منهم أن ذاك يقربهم إلى الله إن لم يكن جهالةً أو تهاوناً منهم.
ولكن هيهات هيهات فما ظنوه سوء محض لا يقربهم إلى الله زلفى إلا أن الشيطان يزين للخلائق وضعفاء البصائر المنكرات بأجمل الحلل وأزين البهارج ، ولكن أنى لأمثال هذا الصنف من زلفى ؟!
سَارتْ مُشرِّقةً وسِرتُ مُغرباً شَتَّانَ بين مشرقٍ ومُغَرِّبِ
إنما الجائز - بل الواجب - ما كان تحذيراً من المبتدع البين بدعته والضال البين ضلاله مما هو مخالف ما عليه أهل السنة والجماعة حتى لا يضر المجتمعات الإسلامية ببدعته وضلاله.
قال الذهبي في الميزان(1/498) : قال : أبو صالح الفراء حكيت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن ، فقال ذاك يشبه استاذه – يعني الحسن بن حي.
قلت : ليوسف : أما تخاف أن تكون هذه غيبة ؟
فقال : أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم ومن أطراهم كان أضر عليهم.أهـ
فأعراض البشر محرمة إلا المبتدعة ولا يجوز الكلام في حقهم إلا بحق على ما سبق الإشارة إليه.
قال الفضيل: " والله ما يحل لك أن تؤذي كلباً ولا خنزيراً بغير حق فكيف توذي مسلماً ؟أهـ
وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ يقول : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم .
ألا هل بلغت ؟
قالوا نعم .
قال : اللهم اشهد .
فليبلغ الشاهد الغائب .
فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع .
فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض(6).
فلا فلاح للمجتمعات بمختلف طبقاتها ما انتشرت في أوساطها الظنون السيئة .
بل لن تبلغ ذرة الإخاء والإيمان الصادقين حتى تحقق فرائض الأعمال وفضائلها وتحذر من سفسافها بمحض إرادتها وعقد عزيمتها تقرباً لله وحده دون ما سواه ، والله المستعان.
------------
(1) أخرجه البخاري في صحيحه /فتح واللفظ له رقم 5144 ، 6064 ، 6066 ، 6724 ومسلم في صحيحه رقم 2563كلاهما من حديث أبي هريرة .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه /فتح واللفظ له رقم 4351 ومسلم في صحيحه رقم 1063كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري .
(3) سورة المائدة الآيتان رقم 55 ، 56 .
(4) سورة الرعد الآية رقم 17 .
(5) سورة الشعراء الآيتان رقم 218 ، 19 .
(6) أخرجه البخاري في صحيحه /فتح واللفظ له في مواضع عدة منها رقم 4403 ومسلم في صحيحه رقم 66 كلاهما من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما .